الخميس,16 فبراير 2012 - 09:22 ص
: 4425

بدأ مصطلح الدولة المدنية يتردد مؤخراً في كل مناسبة سياسية أو دينية أو في مظاهرة أو في تحرك مطلبي على ألسنة السياسيين، وعلى ألسنة المواطنين نسمع من البعض أن الحل لآفة الفساد ومشكلة النظام الطائفي هو قيام الدولة المدنية ونسمع من البعض الآخر.. بأنه ضد هذا المفهوم فهو يخشى على دينه لأنه يزعم بأن الدولة المدنية تتعارض مع الدين
fiogf49gjkf0d
بداية نريد أن نوضح أنه لا يوجد في علم السياسة ما يسمى أصلاً بالدولة المدنية ومصطلح الدولة المدنية لا وجود له في المراجع السياسية كمصطلح سياسي، ولكن استخدام المصطلح إعلامياً يعني قيام دولة يكون الحكم فيها للشعب بطريقة ديمقراطية، ويكون أبناء الشعب فيها متساوين في الحقوق، ولا يكون فيها الحكم لرجال الدين أو للعسكر.
الدولة الدينية (الثيوقراطية)
هي الدولة الكهنوتية، وعُرفت في العصور الوسطى بـ"عصور الظلام" في أوروبا، وهي عندما كانت الكنيسة مسيطرةً على مقاليد الأمور، فأوهمت الشعوب أن الحاكم أو الملِك هو ظل الله في الأرض، وهو الناطق باسم الذات الإلهية، ولا يجوز مخالفته أو عصيانه، مهما كانت الأوامر الصادرة منه، وتعدُّ أوامره إلهيةً لا يجوز مناقشتها؛ لذلك لم تقبل الكنيسة في العصور الوسطى أي عالم من العلماء يأتي بأي حقيقة كونية أو غير كونية مخالفة للمعتقدات، فحاربوا العلم والعلماء، وقتلوا الفكر والإبداع، بل قتلوا كثيرًا من العلماء، وساد الظلم والفقر، ولذلك ظهر من حمَّل الكنيسة كلَّ الوزر، وأنها سبب التخلف العلمي والفقر والظلم، ولذلك لجأ كثير منهم للعلمانية التي تُقصي الدين كلَّه عن الحياة، وتنتهج العلم الدنيوي، وأن المصالح هي الحاكمة للإنسان في حياته، بغضِّ النظر عن أي دين أو قيم أو مبادئ تحكم الإنسان في دنياه.
وهذا ما لم نعرفه في الإسلام، فإن أول دولة أسسها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم- وهو الذي يوحَى إليه من رب السموات- كان أساسها الشورى.
وضع نبينا صلى الله عليه وسلم أول دستور للحكم (دستور المدينة)؛ لينظم العلاقات بين المسلمين ويهود ومشركي المدينة في اثنتين وخمسين مادةً، تمثل أعظم نواة لدستور الدولة المدنية؛ الذي يحفظ حقوق الإنسان والمواطنة وحسن العلاقات مع غير المسلمين، وهو دليل يشير إلى أن الدولة في الإسلام ليست بمفهوم الدولة الدينية في الغرب،
وإن من سيرته صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، أولى الغزوات الكبرى في الإسلام، وقوفه مخاطبًا أصحابه: "أشيروا عليَّ أيها الناس"، فيأتي سيدنا الحباب بن المنذر، ويقول: يا رسول الله ما هذا بمنزل- موقع المعركة- ويختار للمسلمين أن يكون موقعهم عند بئر بدر، ويضع الخطة في استعمال المياه أثناء الحرب، وينتصر المسلمون بمشورة سيدنا الحباب بن المنذر.
وأخرى في غزوة أحد، يستشير الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل المعركة، وكان رأي الرسول والصحابة الكبار أن يبقوا في المدينة كي يتحصَّنوا فيها؛ ولكنْ رأى الشباب أنه من الأفضل الخروج لملاقاة الأعداء خارج المدينة، وكان الشباب أغلبيةً في العدد، فيوافق الرسول على رأي الشباب، نزولاً على الشورى، ويخرج لمواجهة الأعداء خارج المدينة عند جبل أحد، وعندما سأل الصحابة الرسول عن أمر في الزراعة ردَّ عليهم صلى الله عليه وسلم بقوله "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وترك الأمر للمتخصص في هذا العلم.
ومن سيرته الكثير والكثير من المواقف التي تعلمنا أن القرار (الاجتهاد) لم يكن قرارًا إلهيًّا يومًا ما، طالما لم يتعارض مع أصل من أصول الإسلام الذي أثبته الله بالوحي.
ولم تختلف سيرة أصحابه من بعده صلى الله عليه وسلم..
فهذا أول خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق بعد مبايعته عن طريق الشورى، يخبر العالم في أول خطبة له في الحكم فيقول: "لقد وليت عليكم ولست بخير منكم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أساءت فقوموني".
وبالإشارة إلى الحاكم الثاني بعد سيدنا أبو بكر الصديق، وهو سيدنا عمر بن الخطاب الفاروق، أول أمير للمؤمنين؛ الذي اشتهر بالعدل والإنصاف؛ يقول في خطابه للمسلمين مثلما قال أبو بكر، فردَّ أحد المسلمين وقال: "بل نقومك بسيوفنا يا عمر"، فقال عمر "الحمد لله أن جعل من المسلمين من يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف".
وعندما أراد أن يحدد عمر مهور الزواج وقفت امرأة وقالت له: كيف تحددُها يا عمر ولم يحددْها الله؟ فردَّ عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر.
وهذا عمرو بن العاص وابنه يحكم عليهما الفاروق عمر بن الخطاب بالقصاص منهما للمصري، عندما ضرب ابن عمرو بن العاص القبطي، فقال له عمر اضرب عمرو بن العاص وابن عمرو بن العاص، وقال كلمته المشهورة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!".
وهناك الكثير والكثير الذي يؤكد أن الحاكم في الشريعة الإسلامية ليست له قدسية تمنع من المساس بذاته أو محاسبته، ولكنه بشرٌ يصيب ويخطئ، ويجب أن يصحَّح له الطريق عندما يخطئ، ويحاسَب كأي فرد من الرعية، بل يتم عزله عندما لا يستجيب للتقويم.
لذلك عرف الإسلام الدولة الإسلامية بالدولة المدنية ذات المرجعية والهويَّة الإسلامية، التي تنتسب إلى دين الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة!.
وهي دولة مؤسسات، فيها الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتعليم والدفاع، وكلٌّ له مؤسسته ورئيسها، وتُحكم هذه المؤسسات بالقوانين والشرائع الوضعية التي لا تخالف الشريعة الإسلامية، فالإسلام شريعة مكتملة لإعمار الأرض بمنهج الله الشامل لكل نواحي الحياة، فأكبر آية في القران آية الدين، وكذلك آيات ترتقي بالعلاقات الاجتماعية والأسرية، كما في سورة النساء وغيرها، وأخرى تنظم العلاقات الدولية كما في بداية سورة التوبة، وأخرى تشرِّع الحدود والقصاص؛ لحفظ الأعراض وحماية المجتمع من الفوضى التي تجعل منه غابةً يأكل القويُّ فيها الضعيف.
أما مفهوم دولة مدنية فيعني:
-عدم ممارسة الدولة ومؤسساتها أي تمييز بين المواطنين بسبب الاختلاف في الدين أو الجنس أو الخلفية الاجتماعية والجغرافية .
-مؤسسات الدولة وسلطاتها التشريعية (المجلس التشريعي)، والتنفيذية (الحكومة)، يديرها مدنيون منتخبون يخضعون للمساءلة والمحاسبة، ولا تدار الدولة بواسطة عسكريين أو رجال دين. واستبعاد رجال الدين لا يعني استبعاد المتدينين، ولكن المقصود ألا تجتمع السلطتان السياسية والدينية في قبضة رجل واحد حتى لا يتحول إلى شخص فوق القانون وفوق المحاسبة.
- مدنية الدولة تمنع تحويل السياسة إلى صراع حول العقائد الدينية أو الشرائع السماوية، بل تبقيها صراعا سلميا بين رؤى وأفكار وبرامج وقوى ومؤسسات وأشخاص يهدف إلى اختيار الأفضل للدولة والمجتمع.
- الشفافية، وإمكانية الطرح العلني لجميع الرؤى والأفكار والبرامج الهادفة لتحقيق الصالح العام في ظل قبول التعددية واحترام الرأي الآخر.
-الحكم الوحيد في الدولة المدنية هو مجتمع المواطنين الذي عادة ما يغلب بعض الرؤى والأفكار والبرامج على بعضها الآخر.
-أما رفض الدولة المدنية لتولي رجال الدين أو العسكريين الحكم فهو راجع إلى كون رجل الدين يحمل دائماً للناس رسائل الدين، ويشرح لهم كيفية إرضاء الله، وهذا يمثل سلطة كبيرة للغاية في أي مجتمع. وإذا تولى رجل الدين الحكم يكون من المستحيل رقابته، أو معارضته في حال سلوكه سلوك الفساد بسبب اعتبار الناس له ممثلا لله في الأرض، وهو أمر يفتح باب الفساد والاستبداد. أما العسكريون فهم يملكون بحكم عملهم قوة السيطرة، وتوليهم الحكم وامتلاكهم للسلاح في الوقت ذاته يعني إمكانية تحولهم إلى مستبدين، يضاف إلى ذلك احتمال أن يكون ولاء الجيش في الدولة لهم.
ومع تأكيد عدد من رجال الدين على أن الدين لا يتعارض مع فكرة الدولة المدنية بل على العكس فالأديان تعتمد على الشورى والتخصص وإبرام اتفاقيات خارجية وداخلية وضمان حقوق الأقليات الدينية والمساواة، بما معناه أن مبادئ الدولة المدنية لا تتعارض مع مبادئ الدين، إلا أننا نجد الأطراف المتشددة تجد بالدولة المدنية دولة ملحدة.