الإثنين,12 ديسمبر 2011 - 01:19 ص
: 25226    


شهد النسق العالمى خلال النصف الثانى من القرن العشرين عملية سياسية مركزية هى توازن الرعب ، ومن هذه العملية المركزية تفرعت عدة عمليات سياسية هى الحرب الباردة ، والتعايش السلمى ، والانفراج ، والحرب الباردة الجديدة . وقد حدثت تلك العمليات على التوالى ، كما انها تمت فى اطار قواعد محددة للسلوك الدولى بعضها تم التوصل اليها صراحة اثناء تسويات الحرب العالمية الثانية ، والبعض الاخر تم التوصل اليه ضمنا نتيجة بروز عملية توازن الرعب وما ترتب عليها من استحالة نشوب الحرب العالمية .

fiogf49gjkf0d
يمكن القول ان عملية توازن الرعب هى العملية المركزية التى حكمت حركة القوى الدولية خلال تلك الفترة ، وان كل العمليات السياسية الاخرى كسباق التسلح والصراعات الدولية كانت بمثابة تفريعات على تلك العملية المركزية .
ويقصد بتوازن الرعب Balance of terror علاقة تمتلك فيها الدول القدرة على شن ضربة ثانية مضادة تلحق بالطرف البادئ بالحرب خسائر لا يمكن تحملها ، اى انها موقف تنعدم فيه قدرة اى دولة على شن ضربة اولى ساحقة . وقد نشأ هذا الموقف بعد امتلاك القوتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى القنبلة النووية والادوات الكفيلة بنقلها الى ارض العدو ، وتطوير اجهزة نقل القنابل والصواريخ الحاملة للقنابل بحيث يصعب على اى طرف شن ضربة اولى ساحقة . وقد امتلك الاتحاد السوفيتى القنبلة النووية سنة 1949 ولكنه لم يمتلك اداة نقلها الى ارض الولايات المتحدة الا سنة 1957 حين طور الصاروخ الباليستى عابر القارات Inter-Continental Ballistic Missile ( ICBM ) . لكن هذا لا يعنى ان ميزان الرعب قد بدأ فقط سنة 1957 وان كان قد تأكد فى تلك السنة ، فقبل ذلك استند توازن الرعب الى قدرة الاتحاد السوفيتى على نقل القنبلة الى دول اوروبا الغربية الحليفة للولايات المتحدة فى اطار حلف الاطلنطى .
ويختلف توازن الرعب عن توازن القوى الذى ساد قبل الحرب العالمية الثانية فى ان توازن القوى يعتمد على التكافؤ فى القوة المادية مع الطرف الاخر ، اما فى حالة ميزان الرعب فان التكافؤ لا يكون فى عناصر القوة المادية ولكن فى القدرة على اقناع الطرف الاخر على انه يستحيل عليه تحقيق مكاسب من شن ضربة اولى مفاجئة نتيجة الاحتفاظ بعدد من الاسلحة النووية بعد امتصاص الضربة الاولى يكفى لتوجيه ضربه ساحقة للطرف البادئ. ومن ثم فان توازن الرعب يمكن ان ينشأ حتى اذا كان هناك عدم توازن فى عدد الاسلحة النووية بين الدولتين ، طالما ان الدول المالكة للعدد الاقل قادرة على اخفاء جزء كبير من الاسلحة بحيث تكون بمناى عن الضربة الاولى .
ادى نشوء علاقة توازن الرعب الى ادراك الدولتين العظميين استحالة الدخول فى حرب عالمية تستعمل فيها الاسلحة النووية ، ذلك ان تلك الحرب ستسفر عن تدمير الدولتين معا ، ومن ثم فقد تم التوصل الى مجموعة من القواعد التى تحكم العلاقة بين الدولتين ، بعض هذه القواعد كان امتدادا لتسويات الحرب العالمية الثانية بينما تم التوصل الى البعض الاخر ضمنا بعد نشوء موقف توازن الرعب .
ويمكن تحديد اهم تلك القواعد فى :
 
1) الاتفاق على عدم تحدى الطرف الاخر فى منطقة نفوذه المباشرة :     
رأينا انه فى اطار التسويات التى عقدتها الدول المنتصرة فى اواخر الحرب العالمية الثانية تم الاتفاق على توزيع جزئى لمناطق النفوذ فى اوروبا ، وقد احترم هذا الاتفاق بعد انتهاء الحرب . فلم يتدخل الاتحاد السوفيتى بشكل فعال فى اليونان كما لم تتدخل الولايات المتحدة ، وبريطانيا فى رومانيا . وبعد نشوء موقف توازن الرعب حدث تفاهم امريكى – سوفيتى على ان كلا من الدولتين لن يتحدى الاخر بشكل مباشر فى منطقة نفوذه حيث تعتبر امريكا اللاتينية منطقة نفوذ امريكية ، وشرق اوروبا منطقة نفوذ سوفيتية . وهو الموقف الذى اطلق عليه بعض الدارسين " اضفاء الشرعية على القطبية الثنائية Bipolar Legitimation " وما عدا ذلك فقد اعتبرت باقى مناطق العالم مناطق نفوذ مفتوحة للتنافس بين الدولتين العملاقتين ولكن فى حدود معينة .
 
2) الالتزام المتبادل بعدم مفاجأة الطرف الآخر :
ويقصد بذلك ان لا يقوم اى طرف بعمل من شأنه ان يغير بشكل جوهرى من التفاعلات الدولية العالمية والاقليمية بشكل مفاجئ . ذلك ان مثل هذا العمل ربما يؤدى بالطرف الآخر الى انتهاج سلوك غير محسوب مما قد يؤدى الى تصعيد ينتهى بالحرب ، ويتحقق ذلك من خلال نظام للاتصال يتعرف من خلاله كل طرف على نوايا الطرف الاخر، كما يتعرف على الخطوة التالية لهذا الطرف . وقد كانت ازمة الصواريخ الكوبية سنة 1962 هى نقطة التحول التى تم بعدها الاتفاق على تلك القاعدة حيث ان الاتحاد السوفيتى فاجأ الولايات المتحدة بنصب صواريخه فى كوبا على بعد 90 ميلا من الاراضى الامريكية . ولما اكتشفت الولايات المتحدة الصواريخ حاصرت الشواطئ الكوبية , مما هدد بنشوب حرب عالمية . ولذلك نجد انه عندما قامت الولايات المتحدة بتلغيم الموانى الفيتنامية سنة 1972 اخطرت الاتحاد السوفيتى بذلك مقدما ، وفعل الاتحاد السوفيتى ذاته عندما قاموا بالتدخل فى افغانستان سنة 1979. وقد تم تأكيد وتطوير هذه القاعدة فى اطار مؤتمر هلسنكى سنة 1975.
 
3) ضبط النفس المتبادل :
يقصد بضبط النفس المتبادل عدم المبادرة باستخدام القوة العسكرية ضد الطرف الآخر والاقتصاد فى توظيفها اذا استعملت اصلا . فقد حدث اتفاق بين العملاقين على تجنب المواجهة المباشرة بينهما . بما فى ذلك الاقلال الى اكبر حد ممكن من استعمال الادوات العسكرية فى تلك المواجهة ، وقد اتضح ذلك بجلاء فى ازمة الصواريخ السوفيتية التى وضعت فى جزيرة كوبا سنة 1962 ، والتى العملاقين فى مواجهة مباشرة واضطر كلاهما الى ممارسة ضبط النفس بسحب السوفييت الصواريخ مقابل تعهد الولايات المتحدة بعدم مهاجمة كوبا ، وهو ما تم بالفعل .
 
4) التدخل غير المباشر فى الصراعات الاقليمية :
اخذت القوتان العظميان على عاتقهما الامتناع عن القيام بدور مباشر فى الصراعات الاقليمية التى تكون القوة الاخرى منغمسة فيها. فقد تقوم القوتان بتأييد بعض اطراف الصراعات الاقليمية ، وقد تحثا تلك الاطراف على اتباع سياسات معينة ، ولكن خطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها فى هذا التاييد ولذلك فان الاتحاد السوفيتى لم يتدخل عسكريا وبشكل مباشر فى مناطق الازمات التى كانت الولايات مشاركة فيها واهمها الازمة الفيتنامية (1964-1974) كما ان الولايات المتحدة لم تتدخل عسكريا وبشكل مباشر فى مناطق الازمات التى كان الاتحاد السوفيتى مشاركا فيها ، واهمها الازمة المجرية سنة 1956 وازمة تشيكوسلوفاكيا سنة 1968 ، وازمة افغانستان سنة 1979.
بيد ان عدم التدخل المباشر فى الصراعات الاقليمية لا يعنى ان القوتين العظميين لم تلعبا دورا فى تلك الصراعات . فهذه الصراعات كانت فى بعض جوانبها احد اشكال المواجهة غير المباشرة بين العملاقين . فمع صعوبة قيام حرب مباشرة بينهما لجأ كلا منهما الى محاولة تحقيق اهدافه الاقليمية عن طريق وحدات دولية وسيطة او محلية بحيث لا يبدو ان القوة العظمى متورطة فى الصراع المحلى . وهذا ما عبر عنه بحروب الوكالة proxy wars   ومن امثلة تلك الحروب ، الحرب التى شنتها اسرائيل على مصر ، وسوريا ، والاردن ، سنة 1967 لضرب النفوذ السوفيتى فى الشرق الاوسط وذلك بدعم امريكى مستتر ، والدعم الذى قدمه السوفييت لجبهة التحرير الفيتنامية فى حرب فيتنام .







التعليقات

الآراء الواردة تعبر عن رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

الأكثر قراءة

عقوبات التزوير في القانون المصري - عدد القراءات : 80601


الموجة الرابعة للتحول الديمقراطي: رياح التغيير تعصف بعروش الدكتاتوريات العربية - عدد القراءات : 69084


تعريف الحكومة وانواعها - عدد القراءات : 56351


النظام السـياسي الفرنسي - عدد القراءات : 53373


طبيعة النظام السياسي البريطاني - عدد القراءات : 51750


مفهوم المرحلة الانتقالية - عدد القراءات : 49640


معنى اليسار و اليمين بالسياسة - عدد القراءات : 46570


مفهوم العمران لابن خلدون - عدد القراءات : 46265


ما هى البورصة ؟ و كيف تعمل؟ وكيف تؤثر على الاقتصاد؟ - عدد القراءات : 44842


منظمة الفرانكفونية(مجموعة الدول الناطقة بالفرنسية) - عدد القراءات : 44347


الاكثر تعليقا

هيئة الرقابة الإدارية - عدد التعليقات - 38


اللقاء العربي الاوروبي بتونس من أجل تعزيز السلام وحقوق الإنسان - عدد التعليقات - 13


ابو العز الحريرى - عدد التعليقات - 10


الموجة الرابعة للتحول الديمقراطي: رياح التغيير تعصف بعروش الدكتاتوريات العربية - عدد التعليقات - 9


لا لنشر خريطة مصر الخاطئة او التفريط في شبر من أراضيها - عدد التعليقات - 7


الجهاز المركزي للمحاسبات - عدد التعليقات - 6


تعريف الحكومة وانواعها - عدد التعليقات - 5


الليبرالية - عدد التعليقات - 4


محمد حسين طنطاوي - عدد التعليقات - 4


أنواع المتاحف: - عدد التعليقات - 4


استطلاع الرأى