fiogf49gjkf0d
- ويدللون على صحة هذه الرؤية بان للسودان حدوداً مع ست دول، إريتريا إثيوبيا، أوغندا، الكونغو، ثم اخيراً ما كان يسمى بأفريقيا الاستوائية الفرنسية وأنه باستثناء مصر فإن تلك الحدود قد عينتها اتفاقيات دولية صريحة، وتم التحديد والترسيم من خلال إجراءات محددة.
- (ثانياً) أن هذا الخط تحكمي بمعنى أن الذي وضعه على الخريطة لم يراع الاعتبارات التي كان من المفروض مراعاتها في صناعة الحدود، سواء كانت اعتبارات طبيعية أو بشرية، وأنه أقرب إلى أن يكون رجلاً جاء بقلم ومسطرة ومد الخط الفاصل بين البلدين فوق خط وهمي هو خط عرض 22° شمالاً.
- (ثالثاً) غموض اختيار هذا الخط، أو فيما كتب أحدهم أطروحة قدمها إلى إحدى الجامعات الإنجليزية أنه "من غير المعروف بالضبط لماذا اختار كرومر خط عرض 22 كحد شمالي للسودان"، ويضيف مهوناً من شأن هذا الاختيار العبارة التي جاءات في كتاب المستر ونستون تشرشل والذي كان في صحبة الحملة المصرية الإنجليزية التي قضت على الدولة المهدية كمراسل صحفي، ثم أصدر كتاباً تحت اسم "حرب النهر The River War" تضمن تحقيقاته.. قالت هذه العبارة أن سبب اختيار عرض 22 أنه الخط الفاصل بين الحضارة والبربرية The dividing line between civilization and barbarism، وهو يسوق هذه العبارة ويصفها بالملاحظة الساخرة من جانب السياسي البريطاني الشهير، تدليلاً على أنه لم يجد ثمة تفسيراً مقبولاً لاختيار هذا الخط.
نقد الراى السودانى :
نسى هؤلاء أولاً أن علاقة مصر بالسودان خلال القرن الماضي، ولفترة غير قصيرة من القرن الحالي لا يمكن أن تقارن بعلاقتها بسائر الجيران الذين يتحدثون عنهم شرقاً وجنوباً وغرباً، مما يدعو إلى التذكير بهذه العلاقة..
فقد بدأت فيما هو معروف، في العصور الحديثة، بعملية "الضم" الشهيرة التي قام بها محمد على للسودان في أوائل العشرينات، وهي عملية تقتصر على ضم السودان إلى بعضها البعض لتشكل لأول مرة في تاريخه بلداً واحداً.
لعل ذلك ما دعا واضعي الخرائط قبل عام 1899 إلى أن يسموه "بالسودان المصري وهذه الخرائط لازالت موجودة في الجمعيات الجغرافية القديمة.. الجمعية الجغرافية الملكية في لندن، والجمعية الجغرافية المصرية والتي تأسست عام 1875 تحت اسم الجمعية الجغرافية الخديوية.
ومع أنه من الناحية النظرية أقر فرمان 13 فبراير عام 1841 مبدأ أن يكون حكم مصر وراثياً في أسرة محمد على بالنسبة لـ"مصر الأصلية" وغير وراثي بالنسبة للملحقات، أي السودان، فإنه من الناحية الواقعية استمرت فرمانات التولية التي تصد\ر لأبناء أسرة محمد على تتضمن إسناد حكم الملحقات إليهم مما وضع السودان اخيراً في موقع مصر من الناحية القانونية، الأمر الذي انتهى في عصر اسماعيل إلى أن يصبح لتلك البلاد ممثلوها في مجلس النواب المصري.
أدت العلاقة الخاصة إلى أن يعتبر علماء قانون الدولي من المصريين ما حدث خلال عامي 1884، 1885 من إجبار انجلترا لمصر على الخروج من السودان نوعاً من الإخلاء Abandonment، وليس الجلاء Evacuation والفارق بين التعبيرين عند هؤلاء أن الإخلاء يتم لجزء من التراب الوطني وهو موقوت، أما الجلاء فيتم عن اراضي الآخرين وهو نهائي.
كل هذه الحقائق كانت أمام اللورد كرومر ومعاونيه عندما اخذ في وضع البند الأول من الوفاق محل الجدل بين الطرفين، ولكن كانت أمامه حقائق أخرى..
كان أمامه أولاً رغبة إنجليزية في الشراكة في حكم السودان، خاصة بعد أن ساهم البريطانيون ببعض المال وبضع من العساكر في عملية القضاء على الدولة المهدية.
وكان أمامه ثانياً رغبة في تغيير وضع السودان القانوني عن وضع مصر، خاصة فيما يتصل بنظام الامتيازات، فهذا النظام الذي كان قد استقر من مدة طويلة في مصر وتجسد في المحاكم المختلطة قد بث كثيراً من العراقيل أمام حرية الحركات التي كانت تبتغيها السلطات البريطانية.
كان آخر العراقيل متصلاً بالسودان، فعندما أرادات السلطات المصرية أن تسحب من احتياطيها مبلغاً من المال يعاونها في الإنفاق على الحملة السودانية نجح المندوب الفرنسي في صندوق الدين في تحريض زملائه على رفض هذا الطلب الأمر الذي دفع حكومة لندن إلى سداده، وأعطاها بذلك مبرراً من مبررات الشراكة!
وكان على كرومر أن يجد صيغة توفيقية بين الرؤية المصرية لاستعادة السودان وبين الرغبة البريطانية للاشتراك في حكمه، وهي الصيغة التي تبدت في ديباجة الوفاق..
ويلفت النظر هنا أن العلاقة الخاصة جداً بين مصر والسودان في العصور الحديثة لم تصنع حدوداً بالمعنى المتعارف عليه في القانون الدولي إلا بعد عام 1956.
فالحدود التي صنعها فرمان 13 فبراير 1841 جاءت للتمييز بين "مصر الأصلية" التي تقرر ان تكون وراثية في أبناء أسرة محمد على وبين الملحقات التي أعطيت لهؤلاء دون حق الوراثة، وحدود وفاق 1899 صنعت للتمييز بين الوضع القانوني لمصر الخاضعة للسيادة الاسمية للدولة العثمانية وللاحتلال الفعلي البريطاني والسودان الذي خرج عن هذه السيادة وأصبح تحت إرادة مشتركة، مصرية ـ إنجليزية.
بيد أن ذلك لم يمنع الجانب المصري من أن يبرز الخط الأول باعتباره حدود اخلال فترة تكالب القوى الاستعمارية على تقسيم افريقيا خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ولم يمنع طرفا الحكم الثنائي من التعامل مع خط 22 باعتباره خط الحدود بين مصر والسودان ومنذ الشهور الأولى التي تلت الاتفاق.
ففي خريطة أعدتها وزارة الحرب البريطانية عام 1900 تضم 58 لوحة تحت عنوان "السودان المصري"، جاءت اللوحتان الأولى والثانية وتضمان المناطق الشمالية من السودانن وقد حدهما الخط 22 مكتوب عليه الحدود الشمالية للسودان
وفي خريطة أعدتها مصلحة المساحة المصرية عام 1910، وكان بشرف عليها إنجليز.. الخريطة تحت عنوان السودان المصري ـ الإنجليزي وتضم 14 لوحة بينت اللوحتان الثالثة والسادسة القسم الشمالي من السودان وعلى خط 22 توصيف الحدود السياسية.
ومع كل هذه الحقائق نرى أن حجج القافزين على المراحل التاريخية إن لم تبطل تماماً فهي تضعف كثيراً.
نأتي بعد ذلك إلى الذريعة الثانية للساعين إلى إضعاف حجية خط 22 باعتباره خطاً للحدود المصرية ـ السودانية، وهي الذريعة القائمة على اعتباره تحكمياً أو تعسفياً، وأن هذا التعسف في الاختيار هو الذي دعا المسؤولين المصريين والإنجليز إلى إدخال تعديلات سريعة عليه.. مرة عام 1899 لتوفير مرسى نهري عميق للجانب السوداني وأخرى عام 1902 للحفاظ على وحدة للقبائل على الجانبين.
ويقيم هؤلاء ذريعتهم على حجتين تفترض أولاهما أن الخطوط الفلكية لا تصلح كخطوط حدودية وترى الثانية وجوب أن تتفق الخطوط الحدودية مع الأوضاع البشرية، خاصة إذا ما كانت أوضاع قبلية!
الفرضية الأولى لا تقف طويلاً أمام تاريخ الحدود في أفريقيا بما فيها حدود الجانبين.. مصر والسودان.
في مصر معلوم أن الحدود الغربية مع ليبيا والتي تقررت باتفاق مع إيطاليا عام 1925، وباستثناء المنطقة الشمالية المطلة على البحر فإنها تسير مع خط طول 25 شرقاً.
في السودان استمر متفقاً، ولفترة غير قصيرة، على أن حدوده مع أوغندا تسير مع خط عرض 5° شمالاً من النيل شرقاً إلى أن تقطع نهر اومو شمال بحيرة رودف غرباً.
أما بالنسبة لتعيين الحدود وفقاً للتوزيعات السكانية فهو الأمر الذي لم يعمل به إلا في أوضاع قليلة مما تشف عنه جملة اتفاقيات الحدود بين البلدين.
اتفاق حدود مصر الشرقية المبرم عام 1906 جاء في مادته السادسة "جميع القبائل القاطنة في كلا الجانبين لها حق الانتفاع بالمياه حسب سابق عاداتهم.. وتعطي التأمينات اللازمة بهذا الشان إلى العربان وأفراد الأهالي ينتفعون من المياه التي بقيت غربي الخط الفاصل (الحدود)".
أما اتفاق الحدود الغربية مع إيطاليا المعقود عام 1925 فقد كان مما جاء في مادته الثامنة " تعين الحكومتان لجنة مختلطة لتسوية مسألة رسوم المراعي والسقاية والبذار وفيما يتعلق بالسكان الرحل الذين ينتقلون على خط الحدود على قاعدة تبادل مبدأ الإعفاء من كل رسم وضريبة".
في السودان تضمن الحدود الغربية المعقود في 10 يناير 1924 بين بريطانيا وفرنسا أن "تمنح مهلة ستة أشهر لإنقال الأهالي من جانب الحدود إلى جانب آخر وفي خلال هذه الفترة فهم أحرار في اختيار المكان الذي سيستقرون فيه".
وفي حالة مثلث حلايب بالذات فإن أفخاذ قبيلة البشارية الواقعة شمال خط 22 تتنوع روابطها بمصر أكثر مما ترتبط بالسودان، والكلام ليس من عندياتنا وإنما من وثيقة بريطانية تتحدث عن بدنات البشارية المقيمة شمال خط 22..
جاء عن بدنة الحمادوراب "لهم علاقات متنوعة مع العبابدة في مصر ويتصاهرون معهم كثيراً ولهم قرى كثيرة في أسوان ودراو وغيرها من الأماكن على النيل".
أما الألباب فقد جاء عندهم بالحرف الواحد "لهم نفس الروابط مع العبابدة التي للحمادوراب".
الأمر الذي جاء عنهم القول أن "لهم علاقات واضحة مع أسواق جنوب مصر" ولم يبق بعد ذلك غير الشانتيراب الذين جاء عنهم القول" أنهم يتنقلون عبر خط 22 لأغراض قبلية".
ولعل ما جاء في هذه الوثيقة يشير إلى حقيقة لم نكن ندريها من قبل وهي أن الترتيبات الإدارية لم تتم لأسباب بشرية متعلقة بمصلحة أبناء القبائل المقيمين شمال خط 22 بقدر ما تمت لأسباب إدارية تتصل برغبة حكام الخرطوم البريطانيين في التعامل مع ناظر واحد للبشارية الذين آثروا أن يضعوهم جميعاً في سلة إدارية واحدة!
يبقى اخيراً الاتهام الموجه إلى خط 22 باعتباره خطاً هزلياً Sarcastic تم اختياره اعتباطاً مما يلفه بكل أسباب الغموض وإذا انطبق هذا القول على أعمال يقوم بها بعض حكام العالم الثالث، فهو لا ينطبق بحال على اعمال رجال الإمبراطورية البريطانية الذين كانوا يخضعون كل تصرفاتهم لمراجعات دقيقة، وإذا حدث وقال به صحفي بريطاني مرافق فلا يعني ذلك القبول به، مهما بلغ هذا الصحفي من شهرة سياسية بعد نصف قرن، فإنه يبقى أن كتاباته في "حرب النهر" كانت موجهة إلى القارئ العادي الذي يحتاج لبعض التوابل لقبول مذاق هذه الكتابات!
ينفي هذا الاتهام خريطة وضعها قسم المخابرات Intelligence Division بوزارة الحرب البريطانية موجودة ضمن المحفوظات السرية لغرفة الخرائط في دار الوثائق العامة الواقعة بالكيوجاردنز، إحدى ضواحي لندن..
الخريطة تحت عنوان مصر العليا والسودان Upper Egypt & the Sudan وتضم 31 لوحة تتعامل 3 لوحات منها مع الأقاليم الشمالية من السودان.. لوحة تحت عنوان مروى، والثانية عكاشة، والثالثة وادى حلفا، وجميعها يحدها من الشمال خط عرض 22.
المهم في هذه الخريطة أن تاريخ وضعها في يناير 1898 أي قبل وضع اتفاقية الحكم الثنائي التي قررت هذا الخط بعام كامل، وحتى قبل القضاء على الدولة المهدية في موقعة كررى الشهيرة، بمعنى آخر أن خط 22 كان متفقاً عليه قبل وقت غير قصير من الاتفاق.
ينفيه أيضاً الذريعة التي انتحلتها السلطات الاحتلالية لوضع اتفاقية 1899 والقيام بدور الشريك الأرجح في حكم السودان، فقد قامت هذه الذريعة على تمييز الأراضي السودانية عن الأراضي المصرية حتى لا تطول ذراع الامتيازات الأجنيبية الأراضي الأولى.
وقد حدث خلال الإعداد للاتفاقية أن عثر السير جون سكوت المستشار القضائي السابق للحكومة المصرية في الأمر العالي الصادر بإنشاء المحاكم المختلطة أن يكون اقصى حدود اختصاصها جنوباً أسوان، ولم تعترض الدول على ذلك يومئذ.
كان معنى هذا ان نظام الامتيازات لم يطبق في أي وقت على وادي حلفا، ومن ثم انعبثت الرغبة في أن تضم إلى بقية الأراضي التي تقرر استبعاد هذا النظام منها.. أراضي السودان.
دعا ذلك إلى البحث عن خط حدود جديد يحقق هذا الهدف، ولما لم يكن هناك معلم جغرافي محدد على الأرض يضمن إدخال وادي حلفا في نطاق الأراضي التي انطبقت عليها الاتفاقية جاء اختيار عرض 22 الذي يقع مباشرة إلى شماليها.
يبقى بعد ذلك المفندين لخط 22 باعتباره خط الحدود المصرية ـ السودانية أن أنظارهم قد انصرفت إلى جانب واحد من القضية، وهو أن إضعاف حجية هذا الخط يمكن أن تتم لحساب خط الحد الإداري الذي نشأ عن فرار من ناظر الداخلية المصري، ولم يتنبهوا إلى أن هذا الإضعاف يمكن أن يجئ لحساب خط حدود مصر الأصلية الذي قرره فرمان سلطاني استند على قرارات مؤتمر دولي!
وإذا كان هؤلاء لم يتنبهوا إلى ذلك فإن صحيفة مصرية هي صحيفة المؤيد نبهت إليه غداة توقيع اتفاق 1899، وفي يوم 25 يناير على وجه التحديد، فقد كتبت تقول "ولا يخفى القراء أن ذلك الوفاق المشؤوم فرض حدود السودان شمالاً عند نهاية الدرجة 22 من العرض وهي تقع على صخور موسى بين حلفا وسرس ولكن الطمع الإنجليزي ألحق حلفا بالسودان إدارة لا ملكية فهي من أملاك مصر مضافة في الإدارة إلى حكومة السودان"، وهو تعليق لا يحتاج إلى تعليق!